دفاعا عن الانسان والحريات
إن موت المفكر الجزائري محمد أركون، ووصيته بإختيار دفنه عند أصهاره بالمغرب الأقصى، قد جعل إنتقاله إلى الدار الآخرة كأنها "لا حدث"،في الجزائر، لأنه عاش كبيرا وختم حياته بوصية صغيرة وضع بها جثمانه في سوق المساومة بين الثقافي والسياسي والتاريخي.. وأدخل نفسه في دائرة "الجهل المؤسس" الذي تحدث هوعنه في سياق مناقشته للفكر الديني بين التراث الإسلامي والميراث التاريخي ليوضح إشكالية "ضوابط الإيمان" في علاقة المؤمن بالله وسلوكه مع الناس، ولأجل تصحيح هذا الخطأ الختامي صار من حق هذا المفكر الجزائري الألمعي أن تخصص له جولة من جولات النقاش نتناول فيها- مرة أخرى- علاقة السياسي بالثقافي في عالم تداخلت أبعاده وتعقدت أطروحاته حتى صارالزواج "جنسية جديدة" وصار الفكر التنويري مرادفا للوجودية التي تتحدد ماهيتها لحظة العدم بالموت والدفن.
أولا : عقل كبير لولا: في سنة 1928 ولد محمد أركون ببلدية توريرة ميمون بولاية تيزي وزو بالجزائر التي كانت يومئذ تحت نير الإستعمار الفرنسي (1830-1962)، وبها درس المراحل الأولى لينتقل إلى وهران لمزاولة المرحلة الثانونية، ويكمل دراساته الجامعية بالعاصمة ثم ينتقل إلى السوربون بباريس ليعد دكتوراه في الفلسفة عام 1968 ثم صار بعدها أستاذا بنفس الجامعة(السوربون) إلى غاية 1991 حيث صار أستاذا زائرا في عدة جامعات عالمية – بعد أن ذاع صيته- كمفكر مجدد يحاول "غربلة" التراث الإسلامي ليفصل الديني عن السياسي والتاريخي عن الفقهي، ويدرج كل ذلك في نظرية تجديدية يسميها "الأنسنة"، ومنها تنطلق مرافعاته حول الفكر والدين واللغة والفلسفة، لخدمة الإنسان وإعادة صياغة العلاقات البشرية .. إلخ.
عمل أستاذا زائرا في ما بين 77- 2001 في كل من جامعات برلين، وبرنستون، ولوس أنجلس، ولوفان لانيف، وفيلاديفيا، وأمستردام، ونيويورك... وأنهى مشواره الفلسفي مستشارًا علميا للدراسات الإسلامية في واشنطن منذ سنة 2000 واستمر بها
إلى يوم وفاته، خلال هذه الرحلة العلمية العالمية ألقى أزيد من 700 محاضرة وندوة في معظم العواصم العالمية، وترك أزيد من 20 كتابا وبعض المخطوطات كلها تدور حول ثلاثة محاور، فكرية فلسفية، سخر حياته لخدمتها، وهي:
- حوار الأديان بين اللاهوت والناسوت
- الإسلام والغرب بين الأخلاق والسياسة
- الأنسنة في السياقات الإسلامية والعلاقات الإنسانية من الموروث التاريخي إلى تحليل الخطاب.
والمتأمل في فكر وتراث وأراء هذا المفكر المخضرم المتحرر، يسجل أربع (04) ملاحظات كبرى يستحيل أن يخطئها المتتبع لما قال وما كتب ودّون في مسيرة غطت أزيد من نصف قرن.. لاسيما إذا كان الباحث ينشد الموضوعية والحياد ويبحث عن كيفيات عملية لإنصاف الرجال والانتصار للحقيقة بعيدا عن محاكمة النيات أو مصادرة الفكر على أسس إديولوجية أو على قاعدة : "إذ لم تكن معي فأنت ضدي". فالعلماء أعزاء علينا ولكن الحق أعزّ منهم.
هذه الملاحظات الأربع(04) هي :
1- الخلط بين النص والاجتهاد : يظن أركون أن الإسلام ليس واحدا وإنما هناك إسلام وإسلام، أوهناك مستويات عدة من الإسلام، مع أنه يدرك أن الله تعالى قال: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام.." وهو ما يعني أنه يخلط - ربما لحاجة في نفسه أو بسبب تكوينه الفرنكوفوني- بين النص الواضخ الداعي إلى إعتناق الدين الواحد "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" وبين المستويات البشرية التي تحاول تفسير القرآن أو شرح الحديث لتسهيل فهم النصوص الشرعية التي انبثقت عنها المذاهب الإسلامية والمدارس الفقهية، فلا يقال مثلا الإسلام الشيعي والإسلام السنّي، وإنّما يقال فهم السنة للإسلام وفهم الشيعة للإسلام...الخ. ثم داخل المدرسة الواحدة لا يقال الإسلام المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي والإباضي..إلخ، وإنما يقال : الفهم المالكي للإسلام والفقه الشافعي والحنفي والحنبلي والتفسير الإباضي للإسلام الواحد، فالدين واحد والفهوم متنوعة.
2- تقديم العقل على النقل: يبالغ أركون في تمجيد العقل حتى لكأن العقل هو الذي "أنتج" النصوص النقلية، وأن القرآن- الذي يسميه أركون الكلام الشفهي- هو كلام مسموع شافه به محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه (عليهم الرضوان) ثمّ لما انتقل إلى الرفيق الأعلى جمعه الصحابة وقرأوه فصار قرآنا واختلفوا في تفسيره كما اختلفوا في جمع السنة وشروحها، ومن هذه الفرضيات "الأركونية" الخاطئة يبالغ أركون في تمجيد العقل إلى درجة التأليه..ويثق ثقة زائدة عن الحد في عقله وفي معلوماته..فيحاول أن يخضع كل شيء لعقله هو، فينطلق في منهج النقد التفكيكي بلا حدود معتقدًا أن كثيرا من التراث الفقهي يدخل في عالم الأساطير والميثولوجيا والشعوذة.. فيهوي عليها بفأس العقل لتحطيمها لمجرد أن العقل لا يستوعبها..أو لا يستطيع "عقلنتها".
3- الإسراف في توليد المصطلحات: فهو يحاول جاهدا أن ينحت مصطلحات غريبة عن المألوف مع أن لها في التراث الإسلامي مرادفاتها السهلة المتداولة والمتعارف عليها رغبة منه ربما في إيجاد قاموس خاص به كثيرا ما يستند فيه على الدراسات الإستشراقية دون الرجوع إلى أساطين الفكر والتراث في تاريخنا الإسلامي، فيستخدم مثلا مصطلحات غريبة كالرأسمال الرمزي، ونظام الإيمان، والعلامات اللغوية، والطقس الشعائري، والأنسنة، والجهل المؤسس، والنص الشفهي(يقصد القرآن)...إلخ. دون الإشارة إلى مراجعه ومصادره في الصياغات الإصطلاحية أو الإشارة إلى النصوص السماعية التي إستسقى منها معلوماته وصاغ على أساسها مصطلحاته، والجميع يدرك أن التوثيق مسألة منهجية لا تعفي أحدا من الإلتزام بها مهما علا كعبه وامتد ظله وإلا عد النقاد ما يكتبه ويدونه داخلا في شبهة ما يُعرف بالاقتباس الخفي الذي قد يصبح نوعا من "السرقات الأدبية " حتى لو إختار لها صاحبها مصطلحات فاقعة "كالأنسنة" التي حبس أركون نفسه داخل دائرتها وكأنه صاحبها ومكتشفها في حين أن فلاسفة الإسلام الأوائل كانوا قد ألفوا في هذا الموضوع مالا يخفى على أحد تحت عناوين شتى مما يسميه أركون نفسه مباديء اللاهوت ويسميه البعض التصوف وإحياء الربانية والتربية الروحية وعلم السلوك؟!
و"تأليه" العقل نزعة قديمة، وهي لدى أركون تعد زلة كبيرة منه، لأن مجال العقل محصور في أن " يعقل" ما هو مدرك أو متخيل أوله علاقة بما هو مدرك على أساس بعض المقدمات الدالة على إمكانية حدوثه.. أما "الغيبيات" وكل ما نسميه "سمعيات" فهي من "الوحي" الذي يجب التسليم به إذا صح مصدره – من كتاب الله تعالى وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم – لقوله تعالى : "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا" فمجرد السماع كاف للإيمان بها لأن العقل لا يدركها، وعندئذ لا تحتاج أن نعرضها على العقل إلاّ يسلّم بها ، وهل يدرك العقل الغيب مثل (الجنّة، والنار، والصراط، والميزان..الخ) وهو مايعني –في نظر أركون- أن العجز عن الإدراك العقلي أساطير الأولين، وهو يدرك أن القرآن ما أنزل ليعلم العقل كيف يدرك ما يستطيع إدراكه بل أنزل ليعين العقل على ما لا يستطيع إدراكه كونه "آيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ" فعذاب القبر ثابت بالنص لكن العقل لا يدركه، أما أركون فيريد أن يجعل العقل فوق النقل أو يُرحَّل ذلك كله إلى ما يسميه "مبادئ اللاهوت".
4- التعسف في التأويل: تماشيا مع منطقه العقلي حاول أركون أن يخضع تفسير بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية " لسيادة العقل" طمعا في أن يتحقق بهذه " الخرجات" العقلانية انسجام العقل مع النقل والعكس، متجاوزا قاعدة أصولية معروفة تشترط الصحة في ما هو معقول والصراحة فيما هو منقول ليتم التطابق بين "صحيح معقول وصريح منقول" وإلاّ أمكن اللجوء إلى الترجيح والتحكيم بشروط الإجتهاد وضوابط الخروج عن النص، وليس ابتداع أحاديث موضوعه أو تأويل نصوص واضحة لإرضاء " الحداثيين" الذين لا يؤمنون بما يقع خارج دائرة الحواس الخمس (05) وما لا يعقله العقل كما فعل الذي فسر قوله تعالى " تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ" قال: هي حجارة فيها ميكروبات وفيروسات رمت بها طيور، وكانت هذه الحجارة مشبعة بالجراثيم فلما وقعت على جيش أبرهة الحبشي جعلته عصفا مأكولا!؟
هذه هي الملاحظات الأربع (04) التي يمكن لممتبع فكر الفيلسوف الجزائري(دفين المغرب) محمد أركون أن يسجلها، وهي- كما تلاحظ – ناجمة عن نزعة إستشراقية ربما لها سببان رئيسيان:
- أن الرجل خريج السربون سنة 1968 زمن المد الإستشراقي الكاسح وسيطرة الدراسات اللاهوتية وتفشي"موضة" العقل الوجودي (لدى سارتر وسيمون دي بوفوار..وسواهما) ممن إفتتن بهم كثير من مفكري العالم العربي من أمثال حسن مروة، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وحسن حنفي، وعابد الجابري، وعبد الله العروي، عبد السلام المسدي.... وسواهم.
- أن الفترة التي نبغ فيها الدكتور أركون كانت فترة الركود الفكري والجمود الثقافي وإنسداد باب الإجتهاد في عالمنا العربي والإسلامي، في مواجهة عصر النهضة على الضفة الشمالية، فكان لابد من هزّة ثانية (كانت الأولى على يدي محمد عبده ورشيد رضا وجمال الدين الأفغاني...إلخ) قد تعيد للعقل العربي توازنه بين "معتزلة" جدد ألَّهوا العقل ومرجئه جدد علقوا كل شيء على الغيب، وبين جاحد وجامد ضاعت الحقيقة وحدث صدام مفتعل بين عقل خلقه الله ونقل أنزله الله فإذا تصالحا زال التناقض بين صحيح المنقول وصريح المعقول.
ثانيا: بحثا عن الخروج من المأزق: من أكبر أنواع الظلم للفكر البشري أن نتجاهل إدراجه في سياقاته التاريخية فنحاسب هذا المفكر أو ذاك بمعايير عصرنا وكأنه تحرك في زماننا ومكاننا وعالج أوضاعنا اليوم... وهذا خطأ فادح من ثلاث جهات:
أولها، أن الزمن ليس ثابتا، فما أوسع الفجوة بين ستينات القرن الماضي وعشرينات القرن الواحد والعشرين. وما أوسع الهوة بين معتزلة الأمس ومعتزلة اليوم!؟
وثانيها، أن مرحلة التأسيس للفكرة تختلف جذريا عن مرحلة بناء المؤسسات التي سوف ترفدها وتنقلها من "بذرة" في أرض غريبة إلى شجرة وارفة الظلال طيبة الفواكه
وثالثها، أن الخطاب الموجه للغرب يحكمه العقل (بشكل عام) بينما الخطاب الموجه للشرق تحكمه العاطفة (بشكل عام)، لأن الفرق بين مرجعيات الغرب ومرجعيات الشرق يكمن في الخلفيات الثقافية لكل منهما حيث تشكل ثقافة كل "بيئة" المرجعيات الجماعية المبنية على منظومة القيم المختلفة لما يسمى بـ "البنية الاجتماعية"، ومثال ذلك منظومة العلاقات : أي العلاقة بين السوق والمسجد أو بين القانون والقبيلة أو بين المجتمع الإنساني القائم على أساس المواطنة والمجتمع الإسلامي القائم على أساس الإنتماء والولاء.
لست هنا مدافعا عن فكر أركون ولا مهاجما لأرائه، ولا أنا معجب بأطروحاته في الذات والأنسنة أو الجماعة والمدينة، والنص والقانون، والعقل والحدس، ونحن والآخر، والجسد والروح... إلخ، بمقدار حرصي على أن نأخذ من الرجل محاسنه وندفن مساوئه معه حيث إختار هو أن يستريح في مهجعه الأخير.
لقد عاش محمد أركون (رحمه الله) أزيد من، خمسين (50) عاما من عمره العلمي باحثا عن باب للخروج من مأزق خطير فرضته عصور الظلام وكرسته الحقب الإستعمارية بثالوثها الآثم (الجهل، المرض، الفقر) وخاض معارك علمية واسعة يدرك هو نفسه انها تتخطى حدود الوطن إلى عالم إنساني أرحب من الوطن هو الفكر والحرية والإنعتاق، وكل " فارس" يلج هذا المضمار ليخوض معارك ضد الجهل وسياسات التجهيل يصطدم بجملة من الحواجز الحقيقية والمفتعلة من جهات كثيرة جاهلة أو عاجزة، دأبت على أن تقيم "عروشها" على أمبراطورية الجهل ومجتمعات الخرافة ودولة : "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ".
- فالأنظمة الاستبدادية تبحث عن فقهاء السلاطين لتمديد أعمار بقائها
- والعقليات العشائرية تتدثر بقشور الدين واللاهوت لتبسط نفوذها
- والطبقات الريعية تبتدع أنماطا سلوكية مرتزقة لتوسع أمبراطورياتها المالية
- والنخب الثقافية تحتكر ثقافة "الفولكلور" لتنوَّم الناس بالطبلة والمزمار.
والكل متفق على تأمين مصالحه الخاصة عن طريق تكريس هذا الواقع الذي يخدم مصالح ضيقة لنخب ذات امتياز على حساب حرية الإنسان وكرامته، وذلك بتحويل الثقافة إلى دين وتحويل هذا المستوى السطحي من "الدين الثقافي" إلى واقع سياسي و" تطبيع" العلاقة بين الأنظمة الإستبدادية والعقلية العشائرية والطبقات الريعية في سيمفونية ماكرة يرعاها الاستبداد، يسمونها سياسة الأمر الواقع أو "الإسلام الرسمي" المظهري الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وما أبشع أن تتحالف السلطة مع الجهل والمرض والفقر ويتعاون هذا الحلف الهجين على إقامة واقع يجعل كل شيئ مطبّعًا (الدين، والقانون، والإنسان، والظلم..) وهكذا تختزل الحياة كلها في كلمتين (الوظيفة والخبز) :
- مواطن يبحث عن وظيفة يأكل بها الخبز.
- وسلطة تسجن مواطنيها في دائرة الوظيفة لأن الخبز بيدها.
وهكذا تتحول صيحات الإصلاح ومبادرات البحث عن الخروج من المأزق إلى جرائم فكرية تقام لها المحاكمات وتنصب بسببها أعواد المشانق ويتحول المفكر إلى مجرم، هو في نظر السلطة متآمر يعمل بفكره وقلمه وخطبه.. ضد الإستقرا ر الذي يعني: استقرار حالة الجهل، واستقرار وضعيات المرض، واستقرار ظاهرة الفقر بتحالف الإستبداد السياسي والعقلية العشائرية والطبقات الريعية بمباركة النخب الثقافية الفولكلورية !؟
فهل كان محمد أركون على خطأ عند ما تساءل : هل يمكن أن نصلح وضعا بالفكر نفسه الذي أدى إلى نشوء هذا الواقع أو بتعبير شائع مفاده : (هل يمكن أن يصبح المفسدون مصلحين)؟ وكيف يمكن أن نفرغ عقولا عششت فيها "الميثولوجيا" لنؤسس بها أو عليها حركة فكرية تنويرية؟
إنصافا للحق أقول: كانت أسئلة الرجل منهجية، وجوابها عندي أن الإصلاح قد أثبت فشله عل كل المستويات وتأكد باليقين – وبالعمل الميداني – أن الرجال الذين نذروا أنفسهم للإصلاح واندمجوا في تيار الأنظمة الإستبدادية إنغرسوا في هذا الواقع الفاسد وصاروا جزءا منه، وبدل أن يغيروه غيرهم وصاروا جزءا من هذا الواقع، بل منهم من صار يدافع عنه ويرافع عن أطروحاته.
فما هو الحل في نظر أركون؟
الحل هو الإنتقال الجذري من فكرة الإصلاح إلى مبدأ التأسيس، أي الشروع في "زرع" جديد، فالمأزق – في نظر أركون- قد تحول إلى أزمة معقدة وصارت مسألة النهضة قاسما مشتركا بين كل الأطراف المؤمنة بأطروحة " الأنسنة" منذ عصر ابن مسكوية إلى عصر محمد أركون – مرورا بالتوحيدي، وابن عربي، والعامري- فقد انفلت الفكر من عقال السياسة وتحررت السياسة من ضوابط الأخلاق وصرنا بحاجة ماسة إلى ثلاث (03) جرعات عالية من " الأنسنة" تخرجنا من تخبطات " الدين والسكين" من جهة ومن احتكارات "الثورة والثروة" من جهة أخرى:
- جرعة ابن مسكويه في بعدها الإنساني الإجتماعي
- وجرعة الماوردي في بعدها الأخلاقي السياسي
- وجرعة التوحيدي في بعدها الفكري الثقافي.
ولست بحاجة إلى بيان أن هذه الجرعات الثلاث ليست هي العلاج النهائي لمعضلة الصراع بين السياسي والأخلاقي، ولا هي حلّ سحري لأزمة التصادم بين الإجتماعي والثقافي لأن سياستنا لم تعد لها مرجعيات فكرية واضحة ولا مآثر تاريخية مشتركة فالنقد السياسي (أو المعارضة بالتعبير الدستوري) لم يعد يهمها الخطاب ذو المحتوى الثقافي بمقدار ما صارت تهتم بالمضامين المحاصصية (حظها من الريوع) إذا صبت الخطاب الخانع في مسعى الاستقرار (ولو كان هذا الاستقرار في القاع) معتقدين أن الإستقرار فضيلة، وهو اعتقاد ليس صحيحًا بإطلاق بدليل أن المريض مثلا إذا قيل أن "حالته مستقرة" فإن هذا القول يدعو إلى القلق بينما إذا قيل : إن الوطن في حالة استقرار لا يهز ذلك شعرة واحدة في رأس الحاكم ناهيك عن رؤوس المعارضة إذا كان للمعارضة "رؤوس"! ؟.
إني أدرك إدراكا واعيا أن محمد أركون قد غيّر وجهته من نقد الاستشراق نقدا ابستمولوجيا إلى نقد الإسلام السني نقدا دوغماتيا منذ عام 1978 في محاولة منه لإعادة بعث مزدوجة أو ثنائية أو ذات شقين :
- شقها الأول يتمثل في البحث عن مناطحة الكبار كالماوردي في الأقدمين، وإدوارد سعيد في المحدثين
- وشقها الثاني يتمثل في البحث عن التأسيس لما صار يعرف بالإسلاميات التطبيقية، وذلك بالخروج نهائيا على منهج الفينولوجيا الإستشراقية بوضع منهجية جديدة لقراءة الإسلام (من خلال النصوص التراثية) في ضوء علم الإجتماع التطبيقي والظواهر الإجتماعية الحديثة.
هذا الإدراك مني لخلفيات فلسفة الأنسنة عند أركون هو الذي دفعني إلى أن ألتمس له بعض الأعذار في ما أعتقدت أنها من سقطاته الفكرية الأربع (04) التي سجلتها في مقدمة هذه المقالة:
- سقطة الخلط بين النص والإجتهاد
- وسقطة تقديم العقل على النقل
- وسقطة الإسراف في توليد المصطلحات
- وسقطة التعسف في التأويل.
فقد كان يريد إحداث صدمة في البنية الفكرية التقليدية، ولعل الهدف من هذه التجاوزات هو العمل على "كسر" رتابة التفكير، وإحداث الصدمة في عقول المتنطعين من دعاة الفكر الأرثوذكسي الجامد لفرض أنماط جديدة من التفكير وطرح مستويات متقدمة من الفكر المتحرر من الدوغماتية بمحاولة إحداث زواج علمي بين التسيب المطلق والتحجر الكامل فيمن نسميهم اليوم الجاحدين والجامدين.
لقد حاول محمد أركون أن يكسر رتابة التفكير النمطي، أو ما يسميه المفكر اللامع مالك بن نبي "العادات الفكرية" ولكنه أفضى إلى ربه دون أن يؤسس لمدرسة الأنسنة، ولنا أن نتساءل اليوم : هل بعد كل هذه المحاولات تحققت أحلام محمد أركون؟
أقول: لقد تحققت نسبيا لأنها حركت الرواكد التراثية وأثارت الزوابع الفكرية.. خاصة بين سنوات 78 إلى1989 لما كان مفكرا ثائرا (أو مناضلا في سبيل فكرته) لأنه – بعد سقوط جدار برلين وانهيار الإتحاد السوفياتي- هدأ فكره ونضجت تجربته وبدأ يبحث عن منهجيات أخرى لاستدراك نقص كان واضحا في نظرية الأنسنة عنده وهو العلاقة بين السلطان والقرآن أو بين السياسة والأخلاق في قيام الحضارات وفي سقوطها.
وهذه ثغرة أخرى لابد من سدها.
ثالثا، الزبد وما ينفع الناس : على خلاف كل المستشرقين والمستغربين تفرد محمد أركون بالتنظير للفكر الإسلامي ولم يتناول مسمى "الفكر العربي" لاعتقاده أن العربية لغة واللغة، في نظره، هي مجرد وعاء لنقل الأفكار والمعارف، وهو ما لا نتفق فيه معه لإدراكنا أن اللغة - فوق كونها وعاء- فهي كذلك ثقافة وانتماء وهوية، فتحية "السلام عليكم" مثلا هي "ماركة مسجلة" ذات انتماء حصري للأمة الإسلامية وللعالم الإسلامي كونها جزءا من العبادة، بينما إطلاقها بغير صيغة "السلام" تظل ثقافة بروتوكولية لأصحابها تنمّ عن مجاملة وذوق وعادة!؟.
وبهذا الفهم القاصر للغة ودورها الحضاري انتهى أركون إلى الاقتناع بأن "الظاهرة الإسلامية" بحاجة إلى نقد يقوم على مبدأ الإختلاف المتنوع ضمن دائرة الإنسانية الأوسع التي تستوعب الإنسان بوصفه إنسانا، بصرف النظر عن لونه وجنسه وإنتمائه وإديولوجيته، وإنتقد بشدة "ثقافة الإستشراق" التي وضعت حاجزًا بين الناس بالحديث عن "الأنا" و"الآخر" ودعا إلى كسر ما يسميه هو "السياجات الدوغماتية" أو السجون اليقينية بتعبير"نيتشه"ودعا إلى التحرر من هذه السجون الموروثة إلى الفضاءات المفتوحة خارج الأحكام المطلقة وإخضاع كل شيء للتحليل والتفكيك وإعادة التركيب بحثا عن الحقيقة التي ليس لها دائما وجه واحد.
مات محمد أركون (رحمه الله) ولكن فكره لم يمت، ودفن –بوصية منه في المغرب – ولكن قامته الفكرية والفلسفية، في مجال الأنسنة، ستبقى أطول من القطريات الضيقة، وسوف يسجل التاريخ يوما ما أنه عاش حياة قلقة مرت بثلاث (03) محطات كبرى، دامت كل واحدة منها عشر (10) سنوات، ولم ترسُ قافلته الفكرية على شاطئ هادئ كان يسميه التأسيس للمسألة الإسلامية حتى توفاه الموت :
- مرحلة نقد الإستشراق 67-1978
- مرحلة نقد الإسلام السني 79-1989
- مرحلة حوار الإديان والحضارات 90-2010.
ومات قبل أن يحسم معاركه الفكرية وقبل أن يكمل "مشواره" الفلسفي وقبل أن يبلور نظريته العالمية في الأنسنة، ولكنه مات بعد أن خلط عملا صالحا وآخر سوءًا.. وترك معالم نظرية ثقافية واسعة يمكن أن نطلق عليها "نظرية الأنسنة في الترث الإسلامي" والتي يمكن – بعد غربلتها وتنقيتها من الشوائب- اعتمادها أرضية لإنجاز برنامج فكري ثقافي جبار يستهدف مسألتين:
الأولى، التحديث الفكري الإسلامي بمرجعية تجديدية معاصرة للنقل والعقل
والثاني، التحديث الثقافي العربي بمرجعية تراثية حداثية (جدلية التراث والمعاصرة) لخدمة الإنسان والحرية معا.
أن هذا الحلم لم يتحقق في عهد أركون لارتباطه بالدين الذي لم يستطع أركون الفصل الحاسم في العلاقة التكاملية بين الثابت والمتغير على مستوى التنظير ناهيك عن المجالات التطبيقية لأنه أسرف في الاعتماد على العقل فخانته النصوص المصادمة لنظرته الأحادية القائمة على تبجيل العقل.
لقد حاول أن يبعث البعد الروحي للإسلام من منظور ابن عربي ونظرية الماوردي ويربط "فصوص الحكم" "بالأحكام السلطانية" لاخراج الجدل الديني من " التسييس" إلى "الروْحنة" على نحو ينزع عن الإسلام قداسة "المشيخة" ليحولها إلى ركح التذوق الفكري" للحكم العطائية" التي نقلت الروح إلى "تنوير" مدرك للمآلات بما هو من تجارب السياحة الروحية في الملكوت الأوسع، لكن الذي حدث- في مسار الحوار الذي لم تقم له حتى الآن مؤسسات تحتضنه- هو أن الحركة التنويرية التي بدأت في نهاية القرن الثامن عشر (18) على أيدي الفلاسفة الثائرين على التحجر الكنسي (الإكليروس) في الغرب لم تجد نفس البيئة الملائمة لها في الشرق لفقدان شروطها، لذلك اصطدمت بحركة موازية من "عودة الوعي" على يدي مصلحين سياسين كبار أرادوا للاسلام أن يستأنف مسيرته من بوابة النضال السياسي ويفرض وجوده على جبهة الجهاد التحرري من حركة جمال الدين الأفغاني إلى حركات الإصلاح القطرية (من النورسي إلى ابن باديس ومن الخطابي إلى حسن البنا..).
إن محاولات الفيلسوف محمد أركون قد حفرت أخاديد عميقة في الفكر الديني - الذي كان سجين الجامدين والجاحدين – وقد نجحت أيما نجاح في فتح النقاش الذي كان محظورا بعد أن أغلق الجهل أبواب الإجتهاد، وأضاف لبنات جديدة إلى ما كان قد شاده مفكرون وفلاسفة كبار من مجددي القرن العشرين (20) ممن يسمونهم التحررين أو "التنوريين" من أمثال إدوار سعيد ونصر حامد أبو زيد، واحمد البغدادي، والجابري، وعبد الوهاب المسيري، ومحمود العالم.. وسواهم، بيد أن الفرق بين هؤلاء وبين محمد أركون يكمن في الإتجاه الذي سلكه كل طرف.
- ففي الوقت الذي بدأ فيه بعض هؤلاء بنقد الإسلام ومحاولة "تغريبه" ليصلوا من خلال ذلك إلى عمق الحضارة الغربية.
- بدأ محمد أركون بنقد الحضارة الغربية ليصل من خلال ذلك إلى عمق الإسلام فكرًا وحضارة (و لكنه لم يكمل المسار). وهذه العملية ذات الإتجاه المعاكس في السير المتقاطع، بين أركون وكثير من نظرائه، في المنطلقات والأهداف هي التي سوف تشفع لمحمد أركون "اجتهاده" في بلورة نظرية الأنسنة التي كان يعتقد أنها الدائرة الأوسع التي يمكن أن تستوعب الديني والسياسي والفكري والثقافي والعقلي والنقلي والبراغماتي والأخلاقي.. وتستغرق- في النهاية- الدين الإنساني (الذي كان يحلم به أوجست كونت) وهو الدين المتحرك في ثلاث دوائر، إذا تجاوزنا الفلسفة إلى ثمراتها، نجدها تتقاطع وتتكامل ولا تتناقض:
• دائرة اللاهوت التي تجعل الدين مسألة شخصية.
• دائرة الناسوت التي توقد في العقل شرارة المعرفة البانية.
• ودائرة العلاقات الإنسانية التي تحفظ للناس حقوقهم وترعى مصالحهم وتصون كرامتهم في ظل حوار ثقافي اجتماعي يجعل كثيرا من المسلَّمات طريقا إلى الرفاه الاحتماعي والإستقرار السياسي و"التنوير الثقافي".. وهو ما يسهل على البشرية كلها – في نظر هؤلاء الفلاسفة- مهمة الولوج إلى عالم السلام والتنمية.
لقد تميز الفيلسوف محمد أركون عن سابقيه بميزتين كبيرتين: الأولى، أنه تحاشى التحليل اللغوي (الفيلولوجي) ليعمق أغوار السياقات التاريخية والاجتماعية والمعرفية والثقافية باحثا عن جوهر الأنسنة في الدين والفكر والفلسفة.
والثاني، أنه تجاوز التنظير المثالي إلى محاولة إعادة بناء نظرية واقعية للإسلام التطبيقي على قاعدة الأنسنة في معناها الواسع القائم على وحدة النوع المخلوق من ذكر وأنثى من الذين ناداهم الله بـ "يا أيها الناس"ودعاهم إلى التعارف : "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". .
وبهاتين الميزتين كانت مقارباته التطبيقية أقرب إلى النتاج الفكري منها إلى النقد من أجل النقد، لأنه حاول تخليص التاريخ الإسلامي من الصبغة الإديولوجية التي حولت كثيرا من الفقهيات إلى"فتاوى سلطانية"جاهزة يبحث لها فقهاء السلطان عن شواهد من النصوص فإن لم يجدوها إبتدعوها ووضعوا لها الأحاديث!؟
إن دعوته إلى البحث عن "معرفة علمية" للدين هي دعوة إلى يقظة العقول على حقيقة كانت غائبة –منذ نهاية عصور الإجتهاد- مفادها أن الفتوى كوصفة الطبيب ليست صالحة لكل زمان ولكل إنسان، وهي صرخة تدعونا إلى إعادة النظر في التراث(الذي هو نتاج بشري محكوم بسياقات الزمان والمكان والحال والعرف) لحساب النصوص الثابتة التي هي مصادر الإجتهاد التطبيقي.
لقد حاول محمد أركون أن يتحرر من الممنوع الذي فرضه السلطان ومن الحرام الذي أملاه القرآن معتقدا أن ممنوعات السلطان هي إشتراطات الطاغية وإملاءات القرآن هي "طابوهات" الكاهن فوجه أصابع الاتهام لهما معا ودعاهما إلى الاحتكام العلمي إلى العقل المتنور والنص المتطهر بإخضاع كل من الميراث السياسي والتراث الديني لعملية غربلة معقدة يسميها "التفكيك المعرفي" لإعادة تركيب المعادلات المعرفية على قواعد من الحوار الناضح والبيان الجريء.
وهو ما يتطابق –مع حيث المنهج- مع توجهات جمهور العلماء وأراء كل الذين تحدثوا عن "التجديد الديني" على أساس البناء على قطعيات النصوص وبضوابط الشرع ومعايير الاجتهاد.
كان من أعظم أساتذة أركون المستشرق الكبير رجيرس بلا شير والمؤرخ الأكبر كلود كاهين وكلاهما – بمساعدة بول ريكور وبيار بورديو- وكلهم كان له أبلغ الأثر في حياته بل في صياغة شخصيته العلمية الناقدة لكل ما تصله يداه ومحاولة الحرث في كل أرض إستعصى على السابقين الإقتراب منها بسبب إفتقار الشرق لثقافة التدوين في البيئات الأمية وإعتمادهم على الذاكرة والسرد الفولكلوري الراقص (القصص الشعبي). الذي يدرك كل من له أدنى مستوى من المعرفة أن الإسلام برئ من خرافات "ألف ليلة وليلة" ومن أساطير "السيد علي ورأس الغول" وسواهما..
عاش أركون في فرنسا التي درس بها وكتب باللغة الفرنسية التي يتقنها وعاصر كل مراحل التحولات في فرنسا وفي مسمى الإتحاد الأوروبي بعد ذلك، وهو ما فرض عليه التطور الطبيعي المتدرج من مرحلة نقد الواقع الكلاسيكي إلى مرحلة تجديد الفكر إلى مرحلة "الثورات الإسلامية" وسقوط المعسكر الشرقي وميلاد القطب الواحد.. ولاحظ دور العقل والعلوم الاجتماعية في كل هذه التحولات وما لعبته العلوم الإنسانية عامة وتطبيقاتها خاصة في المجال السياسي من أدوار رائدة في سيادة أقوام وإبادة آخرين، لذلك عاش "القلق الحضاري" بكل تناقضاته العالمية والعولمية.
الخلاصة : إن الطريق إلى تجديد الفكر الديني لا يمر- في نظرنا- من نقض الفكر الغربي على حساب الفكر الإسلامي ولا العكس، إنما يمر وجوبا بوضع نتاج الفكر البشري كله- بغير ألوان إديولوجية ولاخلقيات تاريخية- على محك النقد التحليلي القائم على المشترك الأوسع بين الناس في جدلية قديمة مازلت هي مقياس الخير والشر أو الجمال والعدل وهي القيمة الإنسانية أو كرامة الإنسان بما تحمله هذه الكلمة من حق وعدل وحرية وديمقراطية ورفاه وجمال.. بعيدا عن العادات اللفظية والأحكام الجاهزة التي دأبت بعض الجهات على أن تصنف الناس على أساسها، فتقسمهم إلى سادة وعبيد (وإن تبدلت التسميات) وتفترض أن نصف الكرة الشمالي يسكنه السادة(ومعهم بعض العبيد لحاجتهم إلى خدماتهم) وأن نصفها الجنوبي يسكنه العبيد (ومعهم بعض السادة المعتمدين عادة من الشمال لإدارة شؤون الجنوب)!؟.
فإذا تخطينا هذه النظرة الفكرية/السياسية، وهي النظرة الاستعمارية العنصرية–التي كرسها التاريخ الإستعماري الحديث- وجدنا أنفسنا نكافح مع التنويرين في نفس الخندق بقناعات متباينة وبوسائل مختلفة لكن للوصول إلى هدف واحد هو التعاون على تجسيد كرامة الإنسان مع حفظ خصوصياته واحترام قناعاته في أبعد تجلياتها.
يقلم الشيخ أبو جرة سلطاني